فلما عرف السحرة ذلك قالوا لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا ولكن هذا أمر من الله عـز وجل آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله ونتوب إلى الله مما كنا عليه؛ فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين}.. وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعوا الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا مضت أخلف موعده. وقال هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا كف ذلك أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً.
فلما أصبح فرعـون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه!! ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصياًلله.
فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب!! قال وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ثم ذكره بعد ذلك العصى فضرب البحـر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى فانفرق البحر كما أمره ربـه وكما وعد موسى فلما أن جاء موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم البحر كما أمر.
فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه} الآية. قد رأيتم من العير وسمعتم ما يكفيكم ومضى فأنزلهم موسى منزلاً وقال أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوماً وقد صام ليلهن ونهارهن وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه فقال له ربه حين أتاه لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان، قـال يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح قال أو ما علمت يا موسى أن ريح فـم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ارجع فصم عشراً ثم ائتني ففعل موسى عليه السلام ما أمر به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك.
وكان هارون قد خطبهم وقال إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع لكـم فيهم مثل ذلك فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوها في ذلك الحفير ثم أوقد عليه النار فأحرقته فقال لا يكون لنا ولا هم.
وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام يا سامري ألا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذلك فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعوا الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال أريد أن يكون عجلاً فاجتمع ما كان في الحفـيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار، قال ابن عباس لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه وكان ذلك الصوت من ذلك.
فتفرق بنو إسرائيل فرقاً فقالت فرقة يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون {يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا، هذه أربعون يوماً قد مضت، وقال سفهاؤهـم أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} فقال لهم ما سمعتم في القرآن وأخذ برأس أخيه يجره إليه وألقى الألواح من الغضب ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له وانصرف إلى السامري فقـال له ما حملك على ما صنعت؟ قال {قبضت قبضة من أثر الرسول} وفطنت لها وعميت عليكم {فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في أليم نسفا}، ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه.
فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأى هارون فقالوا لجماعتهم يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا.
فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألوا الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} وفيهم من كان الله أطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به فلذلك رجفت بهم الأرض فقـال {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذي يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} فقال يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة. فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلـع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل والمقتول ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب فأمرهم بالذي أمرهم به أن يبلغهم من الوظائف فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهو مصغون ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم.
ثم مضـوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوماً جبارين خلقهم خلق منكر وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا ولا ندخلها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قرأه قال نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه قالوا نحن أعلم بقومنا إن كنتم تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ويقول أناس إنهم من قوم موسى فقال الذين يخافون بنو إسرائيل {قالوا يا موسى لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}. فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار!!
وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجزاً مربعاً وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس.
رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك فغضب ابن عباس فأخذ بيد معاوية وانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قـتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره. وهكذا رواه النسائي في السنن الكبرى وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه.
وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره والله أعلم. وقال ابن كثير: وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً. انتهى
نقلا عن الشبكة السلفية،،،